عاش النبى -صلى الله عليه و سلم- ثلاثًا وستين عامًا، قضى أربعين منها قبل البعثة وثلاثًا وعشرين سنة فى البعثة النبوية، وخلال هذه الفترة تحرك النبي -صلى الله عليه و سلم- وتنقل فى شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام، وكان أكثر تحركاته فى فترة بعثته، فسافر كثيرًا، وتنقل بين أماكن متعددة، متعبدًا وداعيًا إلى الله- تعالى- ومهاجرًا، وفاتحًا، وقائدًا، وحاجًّا، وسنتعرف على أهم الأماكن التى ارتبطت بالنبى -صلى الله عليه و سلم- ودعوته .
1- "مكة" :
شهدت "مكة المكرمة" مولد النبى -صلى الله عليه و سلم- فى الثانى عشر من ربيع الأول قبل هجرة النبى -صلى الله عليه و سلم- بثلاث وخمسين سنة، وفى هذا البلد الكريم نشأ النبى -صلى الله عليه و سلم- وترعرع فى كنف جده عبد المطلب بعد وفاة أمه، ثم فى كنف عمه "أبى طالب" بعد وفاة جده .
و فى "مكة" تزوج النبى -صلى الله عليه و سلم- من السيدة "خديجة"، وأنجب منها ستة أبناء، هم "القاسم" و"عبد الله" و"زينب" و"أم كلثوم" و"رقية" و"فاطمة" .
وشهدت "مكة" ميلاد الإسلام وقيام النبى -صلى الله عليه و سلم- بنشر دعوته بين أهلها، يدعوهم إلى التوحيد، وترك عبادة الأصنام، وقد آمن بدعوته عدد من كبار أصحابه، من أمثال "أبى بكر الصديق"، و"عمر بن الخطاب"، و"عثمان بن عفان"، و"على بن أبى طالب"، و"عبد الله بن مسعود"، وزوجته أم المؤمنين "خديجة" التى وقفت خلفه تدافع عنه، وتؤازره بكل ما تملك، وظل النبى -صلى الله عليه و سلم- فى "مكة" ثلاث عشرة سنة، يدعو الناس إلى الإسلام دون ملل أو تعب ، متحملاً كل ألوان العذاب والإيذاء هو ومن آمن معه، ثم هاجر إلى "المدينة" حيث لقى فيها كل عون ومساعدة حتى نشر دعوته وأقام دولته.
وظل النبى -صلى الله عليه و سلم- يذكر "مكة" مهد صباه ومنزل الوحى ويقول : و"الله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت". (أخبار مكة للأزرقى 2/155) .
وشهدت "مكة" رجوع النبى -صلى الله عليه و سلم- إليها فاتحًا في العام الثامن من الهجرة في عشرة آلاف من أصحابه، وكان يومًا مشهودًا كسرت فيه الأصنام التى حول الكعبة،
وعفا النبى -صلى الله عليه و سلم- عن أهلها، وقال لهم : "ماذا تظنون أنى فاعل بكم"، قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم : "اذهبوا فأنتم الطلقاء"
.
2- "بصرى" :
مدينة تقع فى بلاد "الشام" وبقى منها حتى الآن بعض الآثار، وهى تقع فى "سوريا"
وقد زار النبى -صلى الله عليه و سلم- هذه المدينة مع عمه "أبى طالب" وهو صغير،
وكان فى تجارة له إلى الشام، وفى هذه الرحلة حدثت بشارة للنبى -صلى الله عليه و سلم-، فقد التقى "أبو طالب" براهب يدعى "بحيرا" تمعَّن فى النبى -صلى الله عليه و سلم- وهو صغير، ورأى معالم النبوة فى وجهه وبين كتفيه، فقال لأبى طالب : ما هذا الغلام منك ؟
قال : ابنى .
فقال له الراهب : ما ينبغى أن يكون أبوه حيًّا ! قال "أبو طالب" : إنه ابن أخى، مات أبوه وأمه حبلى به .
قال : صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود . فرجع به "أبو طالب" إلى "مكة" .
3- غار "حراء" :
يوجد هذا الغار فى جبل قريب من "مكة" يبعد عنها بضعة كيلومترات، واعتاد النبي -صلى الله عليه و سلم- قبل بعثته أن يتعبد فيه ، يعبد الله فى هذا المكان الهادئ البعيد عن صخب "مكة"، ويتأمل فى الكون ويتدبر فى خلقه- تعالى- وملكوته .
و فى إحدى ليالى شهر "رمضان" نزل عليه "جبريل"- عليه السلام- بالوحى، وقال له: اقرأ . فأجابه النبى -صلى الله عليه و سلم- بقوله : ما أنا بقارئ . وتكرر الطلب من "جبريل"- عليه السلام- وتكرر الرد من النبى -صلى الله عليه و سلم-، ثم قرأ عليه "جبريل" -عليه السلام- الآيات الأولى من سورة العلق :
" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)" (العلق:1-5)
4- دار "الأرقم بن أبى الأرقم" :
هى دار كانت فى أطراف "مكة" يمتلكها "الأرقم بن أبى الأرقم"، كان النبى -صلى الله عليه و سلم- يلتقى فيها بأصحابه بعيدًا عن عيون "مكة" وجواسيسها، يعلمهم ويرشدهم وكان عدد المسلمين الذين يترددون على هذه الدار أربعين من صحابة رسول الله -صلى الله عليه و سلم- ، وقد شهدت هذه الدار الكريمة إسلام "عمر بن الخطاب" .
5- "الطائف" :
بلدة تبعد عن "مكة" نحو خمسة وثمانين كيلومترًا، كان يقطنها قبيلة "ثقيف"، وقد شهدت هذه البلدة قدوم النبي -صلى الله عليه و سلم- إليها فى العام العاشر من البعثة، لعله يجد نصيرًا من أهلها، بعد المضايقات الشديدة التى لقيها من "قريش" وبخاصة بعد وفاة زوجته "خديجة" وعمه "أبى طالب" .
وقد قصد النبى -صلى الله عليه و سلم- بعض زعمائها، وعرض عليهم الإسلام، ودعاهم إلى الله والإيمان، فلم يجد منهم إلا الصدود والسب والإهانة، ومكث هناك عشرة أيام يدعوهم إلى الإسلام، لكنهم عاندوا واستكبروا، ولم يكتفوا بذلك بل أخرجوه من بلدهم، وحرضوا عليه الصبيان والرعاع فرموه بالحجارة، وسالت الدماء من قدمه ومن رأسه من جراء ذلك الإيذاء، وعاد إلى "مكة" ليستأنف دعوته .
6- غار "ثور" :
يقع جبل "ثور" فى جنوب "مكة"، وبه غار "ثور" الذى مكث فيه النبى -صلى الله عليه و سلم- وصاحبه "أبو بكر الصديق" في رحلة الهجرة .
وكان النبى -صلى الله عليه و سلم- قد عزم على الهجرة إلى "المدينة" لنشر دعوته بعد أن بايعه أهلها على النصرة والحماية، وسبقه إلى الهجرة إلى "المدينة" كثير من أصحابه، ولما رأى كفار "مكة" ذلك خافوا من انتشار الإسلام، وازدياد قوته فخططوا لقتل النبى -صلى الله عليه و سلم- ، واختاروا لهذه المهمة أربعين شابًّا من شباب "مكة" الأقوياء؛ حتى يتفرق دم النبى -صلى الله عليه و سلم- فى القبائل، وتعجز قبيلته- بنو هاشم- عن الأخذ بالثأر من كل هذه القبائل .
وخرج النبى -صلى الله عليه و سلم- من بيته في سرية تامة، وفى ظلام الليل إلى دار "أبى بكر"، واتجها إلى الغار واختبأ به ثلاث ليال، وعجزت "قريش" عن الوصول إليه، فقد كانت عناية الله تحرسه وتحميه، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحادثة، فقال تعالى:
"إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)" (التوبة:40)
7- "المدينة المنورة" :
هى مدينة الرسول -صلى الله عليه و سلم-، كان اسمها "يثرب"، فسماها النبى -صلى الله عليه و سلم- "المدينة"، ونهى أن يقال لها "يثرب"، ثم أطلق عليها المسلمون "المدينة المنورة" تمييزًا لها عن غيرها من المدن .
وشهدت هذه المدينة قدوم النبى -صلى الله عليه و سلم- إليها مهاجرًا، واستقبلته استقبالاً عظيمًا، ومنذ أن وصل النبى -صلى الله عليه و سلم- إليها بدأ فى تنظيم الحياة بها، فأنشأ مسجده، ليجمع الناس فيه للصلاة، وللتعلم وإبداء الرأى والمشورة فيما يتعلق بحياتهم ومعيشتهم، كما آخى بين المهاجرين والأنصار .
وقد ظل النبى -صلى الله عليه و سلم- فى "المدينة" عشر سنوات، يقوم بأعباء الدعوة، وينظم الحياة، ويرسل السرايا للدفاع عن "المدينة"، ويبعث الرسل والسفراء إلى ملوك العالم يدعوهم للدخول فى الدين الجديد .
ومن أهم الأحداث التى شهدتها "المدينة" فى حياة النبى -صلى الله عليه و سلم- هى حفر الخندق حولها بإشارة من الصحابى "سلمان الفارسى"، وقد تعرضت "المدينة" لهجوم فى العام الخامس من الهجرة من كفار "قريش" وبعض القبائل المتحالفة معها واليهود، وفوجئت هذه القوات المتحالفة التى عرفت باسم "الأحزاب" بهذا "الخندق"، الذى يحمى "المدينة" وعجزوا عن اختراقه، وانتهى الأمر بنصرة المسلمين بعد أن أرسل الله ريحًا عاصفة أجبرت المتحالفين على فك الحصار والفرار إلى "مكة" .
وقد توفى النبى -صلى الله عليه و سلم- بالمدينة، ودفن فى مسجده، كما دفن بالقرب منه "أبو بكر الصديق"، و"عمر بن الخطاب" .
8- "بدر":
بلدة تبعد عن "المدينة المنورة" بنحو (160) كيلومترًا، وقد شهد هذا المكان فى السابع عشر من "رمضان" سنة (2ﻫ) معركة "بدر" الفاصلة بين الإيمان والكفر، وقد انتصر المسلمون بقيادة النبى -صلى الله عليه و سلم- على مشركى "مكة"، على الرغم من تفوقهم فى العدد والعتاد، فقد كان عدد المشركين يصل إلى نحو ألف مقاتل، فى حين كانت قوات المسلمين تبلغ ثلث عدد المشركين وقد سجل القرآن هذا النصر، فقال تعالى :
" وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)" (آل عمران:123)
9- "أحد" :
اسم جبل من أشهر الجبال، يقع قريبًا من "المدينة المنورة"، وارتبط اسمه بالغزوة التى وقعت أحداثها فى العام الثالث من الهجرة، وعرفت باسم غزوة "أحد" .
وكانت "قريش" بعد هزيمتها فى غزوة "بدر" لم يهدأ لها بال ، وأرادت أن تثأر لهذه الهزيمة، فخرجت لمهاجمة "المدينة"، ومحاربة رسول الله -صلى الله عليه و سلم- فى ثلاثة آلاف مقاتل، ووصلت فى شهر شوال إلى "المدينة"، ونزل جيشها بالقرب من جبل "أحد"، وخرج النبى -صلى الله عليه و سلم- لملاقاتهم في سبعمائة من كرام أصحابه، ووضع خطة محكمة للمعركة، التزموا بها فى بداية اللقاء حتى تحقق النصر، وفر المشركون، وظن بعض المسلمين أن النصر قد تم وتحقق، فتركوا أماكنهم التى كلفهم النبى -صلى الله عليه و سلم- بعدم تركها ، حماية لظهر المسلمين، ونزلوا يجمعون الغنائم، فانتهز المشركون هذه الفرصة، فرجعوا بخيولهم وكان يقودهم "خالد بن الوليد" ولم يكن قد أسلم بعد، فانقضوا على المسلمين من الخلف، فاهتزت صفوفهم وحدث خلل فى الجيش، وفر كثير من المسلمين، ولم يثبت سوى الرسول -صلى الله عليه و سلم- فى الميدان وبعض أصحابه، وتمكنوا من صد هذا الهجوم والثبات فى أرض المعركة، واكتفى المشركون بما حققوه، وعادوا إلى "مكة" .
وفى هذا المكان دفن شهداء المسلمين فى غزوة "أحد"، وفى مقدمتهم "حمزة" عم النبى -صلى الله عليه و سلم-، و"مصعب بن عمير" أول سفير فى الإسلام، وكان النبى -صلى الله عليه و سلم- يقول عن جبل "أحد" : "هذا جبل يحبنا ونحبه".
10- "تبوك" :
مدينة تقع فى شمال الحجاز، وتبعد عن "المدينة" بأكثر من ألف كيلومتر، وقد شهد هذا المكان قيام النبى -صلى الله عليه و سلم- بقيادة أكبر غزوة فى العام التاسع من الهجرة، وكان يبلغ تعداد الجيش ثلاثين ألف مقاتل ، وهى آخر الغزوات التى غزاها -صلى الله عليه و سلم- .
وكان النبى -صلى الله عليه و سلم- قد أعد هذا الجيش فى ظروف صعبة للغاية، وقد سمى هذا الجيش "جيش العسرة" لأن المسافة كانت بعيدة، والجو شديد الحرارة.
وقد أقام النبى -صلى الله عليه و سلم- فى "تبوك" ثلاثة أسابيع، نظم خلالها أوضاع المنطقة، ودخل فى طاعته عدد من الإمارات التى كانت خاضعة لسيطرة الروم، ثم عاد إلى "المدينة" ليستقبل وفود القبائل العربية التى جاءت إليه لتعلن إسلامها .