لابد من الاعتراف بأن أهم إنجازات الثورة المصرية لم يتحقق إلا فى الشوارع والميادين عندما واجهت الحشود والملايين الموت أمام البنادق والمدرعات وعربات الشرطة أو الجيش وفرضت إرادة الشعب وأشواقه للتحرر والكرامة، وكل ما نراه من "هياكل" سياسية هشة حتى الآن مجرد ناتج بسيط لثورة الميادين والشوارع، وينبغى أن نعترف بأن المجلس العسكرى نفسه لم يكن يستجيب ولا يحترم إلا الشوارع والميادين، وحتى بعد الثورة وانتصارها، فقد أسقط غضب الميدان أو جزء منه حكومة العسكرى بكاملها، بينما البرلمان المعبر عن عشرين مليون مصرى شاركوا فى الانتخابات عجز عن أن يغير وزيرًا واحدًا إلا بعد طلوع الروح، فغيروا وزراء التشريفات، وأتت الانتخابات الرئاسية لكى تؤكد أنه كلما ابتعدت عن الميدان كلما سهل التلاعب بك، وما حدث فى مقدمات الانتخابات والأوراق والمستندات التى أثارت ضجة كبيرة لإبعاد المرشحين الأقوياء مثل خيرت الشاطر وحازم أبو إسماعيل، ثم إخراج أحمد شفيق من السباق احترامًا لقانون العزل ثم إعادته فى اليوم التالى للسباق بالمخالفة لقانون العزل الذى هو قانون شرعى مُلزم حتى هذه اللحظة والخروج عليه أو تجاهله خروج على الشرعية، لكن اللجنة خرجت عليه، ثم تقوم أجهزة أمنية وإدارية بدعم شفيق لتمكينه من الوصول إلى الإعادة، ثم قيام الأجهزة الأمنية والإدارية بحملة مكثفة للتمهيد لتمكينه من كرسى الرئاسة، ثم يأتى حكم المحكمة أخيرًا لكى يبرئ كل القتلة والمجرمين فى قيادة داخلية العادلى من تهمة قتل المتظاهرين، وكأن مئات المتظاهرين الذين قتلوا بالرصاص الحى فى الثورة قتلوا على يد قوات احتلال مثلا غزت مصر خفية، أو على يد كتائب حركة حماس كما قال الدجال المجرم محمود وجدى فى شهادته الشنعاء أمام المحكمة، حيث ادعى، وهو وزير الداخلية الذى اختاره زكريا عزمى وأحمد شفيق، ادعى بأن مقاتلين من حماس وأجانب وعرب هم الذين قتلوا المتظاهرين فى الميدان، ثم يكون هذا الدجال هو الذى يدير الآن حملة شفيق نفسه للوصول إلى كرسى الرئاسة ومن ثم عودة وجدى إلى منصبه كوزير داخلية مصر لاستكمال مسلسل القتل والتنكيل بشباب الوطن ونشطائه.
الحكم الذى صدر بتبرئة قيادات الداخلية لا يسأل عنه القاضى المحترم المستشار أحمد رفعت، فقد حكم حكمًا تاريخيًا أدان فيه نظامًا بكامله وجرم فيه عصرًا بكامله ثم كلل إدانته بإدخال الطاغية السجن المؤبد وكذلك ذراعه "الدموى" حبيب العادلى، ولكن تبرئة مساعدى العادلى يسأل عنها من أتلف الملفات والوثائق الخاصة بالوزارة، لطمس الأدلة، يسأل عن ذلك محمود وجدى الذى حدث فور توليه المنصب واقعة إحراق وتدمير مركز الاتصالات لوزارة الداخلية، وتم إحراق وتدمير كل الشرائط والمستندات التى تكشف عن الأوامر وطبيعتها وكيفية إدارة الأزمة كلها، فلم يجد القاضى أمامه إلا شهادات مزورة كتلك التى قالها وجدى ونسب فيها الثورة والقتل إلى منظمة حماس والهنود الحمر، كما يسأل عن ذلك أيضا المجرم السفاح حسن عبد الرحمن، رئيس جهاز مباحث أمن الدولة، الذى قام علانية بأوسع حركة تدمير للوثائق والأدلة، حتى كان دخان حرائق المستندات داخل أفرع أمن الدولة تشاهد من بعد كيلومترات، كما يسأل عن ذلك المخابرات العامة وأجهزة الدولة التى رفضت إمداد النيابة بالأدلة أو الوثائق فاضطرت النيابة للشكوى علانية.
نحن أمام محاولات مستمرة لتزييف التاريخ وطمس الحقيقة وتبرئة القتلة والتلاعب بمشاعر الناس، مقابل أوضاع وهياكل سياسية وإجرائية هشة للغاية وكلها معلقة على قرارات ستصدر بعد شهر أو شهرين تنهى كل شىء وتبعثر كل هذه الهياكل، من أول برلمان بلا صلاحيات وحتى رئيس بلا دستور وبلا أرضية قانونية صلبة يقف عليها ولو لشهر واحد.
كل تلك الهياكل الهشة تلغى بشرطة قلم، وقرار سلطوى قد لا يستغرق عشر دقائق، الوحيد الذى لا يملك أحد مهما علا أن يلغيه بقرار أو بشرطة قلم.. هو الميدان.